شهدت البشرية في الألفية الجديدة، وتحديدًا في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، طفرة كبيرة في الإنجازات العلمية. إذ ظهرت خلال هذه الفترة ابتكارات رائدة مثل أولى لقاحات mRNA، وتقنيات تحرير الجينات باستخدام CRISPR. إلى جانب اكتشافات بارزة كجُسيم بوزون هيغز، وأول قياسات مباشرة لموجات الجاذبية.
ومع أهمية هذه الإنجازات وتأثيرها العميق، إلا أنها لم تتصدر قائمة الأبحاث الأكثر استشهادًا منذ عام 2000.
الأبحاث الأكثر استشهادًا في الألفية الجديدة
تعد الاستشهادات العلمية، والتي يعبر من خلالها الباحثون عن رجوعهم إلى مصادر سابقة في الأدبيات العلمية. أحد أبرز المؤشرات على مدى تأثير البحث العلمي. غير أن الأبحاث الأكثر استشهادًا ليست بالضرورة تلك التي تتناول الاكتشافات العلمية الكبرى. بل غالبًا ما تكون دراسات تتناول منهجيات البحث، أو أدوات برمجية، أو أساليب إحصائية يعتمد عليها الباحثون في أعمالهم.
وفي هذا السياق، أجرى فريق من مجلة Nature العالمية دراسة تحليلية استقصت أكثر 25 ورقة بحثية. نالت استشهادات علمية في القرن الحادي والعشرين. كما كشفت النتائج، وبما يخالف التوقعات. أن الأبحاث التي حصدت أعلى نسب الاستشهاد لم تكن بالضرورة تلك التي تناولت اكتشافات كبرى. بل انصبت في مجالات مثل تطورات الذكاء الاصطناعي، وتحسين جودة البحث العلمي، والمراجعات المنهجية. بالإضافة إلى الإحصاءات الطبية وبرامج تحليل البيانات.
ورغم هذا الاتجاه، برزت دراسة نشرت عام 2004 حول الجرافين. وهو شكل من أشكال الكربون ثنائي الأبعاد يتخذ بنية خلية نحل كاستثناء لافت. إذ أصبحت هذه الورقة من بين أكثر الأبحاث استشهادًا خلال القرن الحالي. وحصد مؤلفاها جائزة نوبل في الفيزياء عام 2010 تقديرًا لإسهامهما الرائد.
الأوراق الأكثر استشهادًا في الألفية الجديدة
كما تتنوع دور النشر العلمي حول العالم؛ ما يؤدي إلى تنوع قواعد البيانات التي تُدرج فيها الأبحاث. وكل منها يخضع لمؤسسات تصنيف تعتمد آليات مختلفة في احتساب عدد الاستشهادات. كما تعد مؤسستا Elsevier وWeb of Science من بين أبرز الجهات العالمية في هذا المجال.
وفي ظل تعدد قواعد البيانات، اختارت مجلة Nature خمس قواعد بيانات رئيسية لإجراء تحليل شامل. واعتمدت على متوسط التصنيفات المستخرجة منها. كما شملت تلك القواعد بيانات تغطي عشرات الملايين من الأوراق البحثية المنشورة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
وفقًا لهذا التصنيف، تعد ورقة بحثية نشرت عام 2016 من قِبل باحثين في شركة مايكروسوفت. من بين أكثر الدراسات العلمية استشهادًا في القرن الحادي والعشرين. كما تناولت الورقة موضوع “شبكات التعلم المتبقي العميق” (ResNets). وهو نوع من الشبكات العصبية الاصطناعية التي تعد من اللبنات الأساسية لتقنيات التعلم العميق.
كما تكمن أهمية هذه الشبكات في قدرتها على تجاوز العقبات التقنية التي كانت تواجه الباحثين. لا سيما مشكلة “تبدد الإشارات” أثناء انتقالها عبر طبقات متعددة في الشبكة. وقدمت الورقة طريقة فعالة لتدريب شبكات تحتوي على نحو 150 طبقة، وهو ما يعادل 5 أضعاف عدد الطبقات المعتاد استخدامها آنذاك، مما مهد الطريق أمام تحقيق قفزات نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي.
يذكر أن هذا الإنجاز ظهر لأول مرة في نسخة أولية أواخر عام 2015. عندما أعلن فريق مايكروسوفت عن فوزهم بمسابقة عالمية للتعرف على الصور باستخدام هذا النموذج المتقدم.
قواعد بيانات متعددة
كان تطوير مفهوم الشبكات الالتفافية العميقة ResNets من العوامل المحورية التي مهدت الطريق لابتكار أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة مثل AlphaGo. القادرة على هزيمة البشر في ألعاب الطاولة، وAlphaFold الذي أحدث ثورة في التنبؤ ببنية البروتينات. وصولًا إلى نماذج معالجة اللغة الطبيعية مثل ChatGPT.
كما يعلق Kaiming He، أحد الباحثين الرئيسيين في الدراسة ومطور خوارزمية ResNet، والذي يعمل حاليًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT). في كامبريدج، قائلًا:
“قبل تلك الدراسة، لم يكن التعلم العميق بهذا العمق أو الكفاءة.”
ورغم أن هذا البحث الذي قادته مايكروسوفت ليس الأكثر استشهادًا على الإطلاق، إلا أنه يعد من بين أكثر الأبحاث تأثيرًا في مجال الذكاء الاصطناعي.
فبحسب Google Scholar، يحتل البحث المرتبة الثانية عالميًا من حيث عدد الاستشهادات، مسجلًا أكثر من 254,000 استشهاد. كما أرسل مؤلفو الدراسة قائمة بأكثر الأبحاث استشهادًا إلى فريق تحرير مجلة Nature.
أما وفقًا لقاعدة بيانات Web of Science، فيأتي البحث في المرتبة الثالثة عالميًا، بأكثر من 100,000 استشهاد.
وعند مقارنة ترتيبه في 5 قواعد بيانات علمية مختلفة، جاء في المرتبة الأولى في قاعدتين، والثانية في اثنتين أخريين. والثالثة في قاعدة واحدة، ما منحه أعلى متوسط ترتيب بين جميع الأبحاث في قواعد البيانات الخمس.