يمكن للفيزياء دراسة ظواهر قد نراها عادية في الحياة اليومية لكنها تحتوي على الكثير من التطبيقات التكنولوجية التي تساهم في تطوير الطيران.
على سبيل المثال: يمكن لدراسة سريان مياه النهر تطوير الطيران فيما يعرف بـ “دراسة الموائع”. والتي تعرّف بأنها المواد القابلة للتدفق كالغازات والسوائل.
التدفق المضطرب للموائع وتطوير الطيران
يوجد نمطان رئيسيان للتدفق في الموائع: السريان الهادئ والسريان المضطرب. واستطاع العلماء دراسة السريان الهادئ للموانع. إذ يتنقل المائع من مكان إلى مكان بطريقة منتظمة.
فيما يمكن رؤية ذلك في حركة مياه داخل أنبوب بطريقة هادئة. ويمتاز هذا النوع من السريان بأن كَمّيَّة السائل التي تدخل الأنبوب تخرج من الطرف الآخر بنفس المعدل الزمني.
بينما يتم التحكم في سريان وسرعة السائل باستخدام معادلات برنولي واللزوجة والاستمرارية وغيرها. حيث تصف تلك المعادلات كيفية انتقال السائل وسرعته ولزوجته.
وفي النمط الثاني”السريان المضطرب” تحدث دوامات في سريان السائل ويظهر كما لو كان السريان عشوائيًا؛ من حيث السرعة والاتجاه وغيرها.
في حين يمكن ملاحظة كلا الظاهرتين في السوائل، مثل: المياه المتحركة، وتيارات المحيطات، والتفاعلات الكيميائية، وتدفق الدَّم، وأعمدة الدّخان. وحتى بلازما النجوم. كما تمثل الطريقتان عاملًا مهمًا في علوم الطيران وتصميم الطائرات؛ حيث يعد الهواء مائعًا.
محاولات عدّة لنمذجة السريان المضطرب
يوصف السريان المضطرب بأنه فوضوي وغير منتظم؛ إذ تؤدي حركة السائل إلى تكوّن دوّامات كبيرة تتكسر إلى دوّامات أصغر. وحاول العلماء لمدة طويلة إيجاد نموذج رياضي للسريان المضطرب باستخدام الحواسيب غير أن هذه المحاولات لم تؤتِ الثمار المرجوة.
وحتى مع وجود الحواسيب الفائقة الحديثة لا تزال المحاكاة المباشرة والدقيقة لمعظم التدفقات المضطربة. باستثناء البسيطة منها، غير ممكنة، ولم يتمكّن الفيزيائيون من الوصول إلى فهم كامل للاضطراب منذ حوالي 200 عام.
وفي دراسة جديدة تبنى فريق دولي من العلماء نهجًا جديدًا لمحاكاة الاضطراب. فاستند الفريق إلى طريقة مستوحاة من الحوسبة الكمومية، وذلك وفق دراسة نُشرت في دورية Science Advances.
نتائج مبشرة لتطوير الطيران
قال المؤلّف الرئيسي للدراسة Nikita Gourianov؛ وهو باحث بقسم الفيزياء في جامعة أكسفورد: “يمكن لنمذجة ظاهرة السريان المضطرب والتنبؤ بها بدقة أن تساهم في تطوير العديد من التطبيقات العملية في العلوم والهندسة. ما قد يؤدي إلى تحسين تصميم الطائرات، والسيارات، والمراوح، والقوالب الاصطناعية، إضافة إلى جعل التنبؤات الجوية أكثر دقة”.
وأضاف Gourianov: “كانت ولا تزال الاضطرابات مشكلة غير محلولة؛ بمعنى أننا لا نستطيع محاكاة التدفقات الواقعية بدقة على أجهزة الحاسوب. وهذا يجعلنا دومًا بحاجة إلى التجربة العملية للتصميمات، أو بمعنى آخر: ما زلنا بحاجة إلى نفق هوائي لتصميم جناح الطائرة على سبيل المثال. لكن التقدم الذي حقّقناه يُساهم في حل المشكلة ويدفع الحدود إلى الأمام”.
الحوسبة الكمومية في نمذجة الاضطرابات بالموائع
من المعروف أن الحاسوب الكمّي يعالج المعلومات بطريقة مختلفة جذريًا عن الحواسيب التقليدية. التي تستخدم وحدات (Bit) لإجراء العمليات الحسابية؛ حيث تكون البيانات في حالة واحدة فقط في كل مرة: إما 1 أو 0.
أما الحاسوب الكمّي فيستخدم وحدات “الكيوبت” Qbit، التي قد تكون 0 أو 1 أو أي مزيج من الاثنين معًا.
واستخدم فريق الباحثين أداة رياضية تُعرف باسم “tensor networks”، ويمكن استخدامها لمحاكاة نظام كمّي.
ويعلق James Beattie؛ باحث ما بعد الدكتوراه وزميل بقسم العلوم الفلكية في جامعة Princeton بولاية نيوجيرسي. وهو غير مشارك في الدراسة: “إن الفريق تمكّن من تسريع الحسابات المعقّدة اللازمة لبدء فهم الاضطراب؛ من خلال تمثيل البيانات التي تحتوي على العديد من المتغيرات بطريقة أبسط”.
وأضاف: “المحاكاة التي ينفذونها هي محاكاة سائل يضم مزيجًا من مادتين كيميائيتين تتفاعلان معًا. من خلال استخدام هذا التمثيل يمكن إجراء الحسابات المعقّدة باستخدام ذاكرة أقل بكثير؛ ما يسمح بتشغيلها على جهاز حاسوب محمول”.
تحسين طريقة الحسابات
وتابع “James”: “رؤية تطورات مثل هذه يعد أمرًا نادرًا؛ ما يجعل ذلك تقدمًا مثيرًا في نمذجة الاضطراب. حيث أدى تمثيل البيانات بتلك الطريقة التي انتهجها الفريق إلى تحسين استخدام ذاكرة الحاسوب بمليون مرة. وكذلك زيادة سرعة العمليات الحسابية بألف مرة”.
وفي حين أن الدراسة الأخيرة تُمثل “تقدمًا مذهلًا” إلا أنها ليست القصة الكاملة حسبما قال “Beattie”؛ مشيرًا إلى أنها لا تتناول قضايا النطاق، أو كيفية ارتباط الدوّامات المضطربة ذات الأحجام المختلفة ببعضها.
وأردف قائلًا: “الاضطراب يعد مشكلة متعددة المقاييس؛ أي أنه يمكن أن يمتد من آلاف السنين الضوئية إلى أقل من 30 سنتيمترًا”. وأضاف: “نريد أن نعرف كيف تتفاعل هذه المقاييس مع بعضها”.
ولفت إلى أن سؤال: كيف تتفاعل الاضطرابات مع بعضها البعض؟ يجعل محاكاة السوائل المضطربة تحديًا كبيرًا. إذ يريد الفيزيائيون تمثيل العديد من المقاييس في المحاكاة. وهو ما يتطلّب قدرًا هائلًا من الذاكرة والقدرة الحاسوبية، وذلك يعني الحاجة إلى تشغيل هذه المحاكاة على حواسيب فائقة ضخمة.
وأشار Yongxiang Huang؛ الباحث والأستاذ المساعد في مختبر الدولة الرئيسي لعلوم البيئة البحرية. وكلية علوم المحيطات والأرض في جامعة Xiamen بجنوب شرق الصين. إلى أن “Gourianov” وفريقه ابتكروا طريقة جديدة تقلل بشكل كبير من استخدام الذاكرة وتعقيد العمليات الحسابية.
ومع ذلك اتفق على أن الدراسة لا تقدّم صورة كاملة. موضحًا أن ذلك يعد صعبًا للغاية بسبب المدى الكبير من مقاييس الاضطرابات المتداخلة. وفي السياق نفسه قال “Huang” واصفًا الاضطراب بأنه أقدم مشكلة لم تُحَل في الفيزياء.