كيف اقتحمت تقنية “الذكاء الاصطناعي” مجال الموسيقى؟
عالم التكنولوجيا ترجمة
يومًا بعد يوم نسمع عن تطور جديد في أنظمة الذكاء الاصطناعي بمختلف المجالات، فبعد دخول تلك الأنظمة غرف الأخبار لتحرير القصص والتقارير الإعلامية، وقدرتها على هزيمة أفضل اللاعبين المحترفين في الشطرنج، وإمكانية اكتشاف الكويكبات القادرة على تدمير الكرة الأرضية، جاء الدور الآن على التفوق في مجال التأليف والإبداع الموسيقي، وهو مجال ظل طويلًا حكرًا على البشر لاعتماده الأساسي على فكرة الابتكار الخلاق.
إن القفزة الجديدة في هذا المجال جاءت مع إعلان معمل “OpenAI” المتطور لأبحاث الذكاء الاصطناعي، والذي أسهم في تأسيسه “إيلون ماسك”؛ رجل أعمال التكنولوجيا الشهير مع عدد من أقطاب صناعة التكنولوجيا، عن إطلاق نظام حمل اسم “Jukebox”.
هذا النظام أصبح قادرًا للمرة الأولى في التاريخ على تأليف أغنيات كاملة بمجرد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة من نوعية الشبكة العصبية مفتوحة المصدر.
لقد خطت شركة “OpenAI” خطوة هائلة ومختلفة في هذا المجال، مع نظام “Jukebox” الجديد؛ إذ تميز بتقديم مقطوعات موسيقية جديدة تمامًا مكتملة بالكلمات، وحتى الغناء بأصوات مختلفة، ويقدم هذا التطبيق مجموعة من المزايا تجعل منه أفضل برنامج بالذكاء الاصطناعي لتأليف الموسيقى تم التوصل إليه حتى الآن.
للوصول إلى تلك النتائج المدهشة؛ تم تدريب النظام على مجموعة ضخمة من البيانات الموسيقية التي شملت كل الأنواع الموسيقية تقريبًا؛ حتى يتمكن الجهاز في النهاية من إنشاء وابتكار أغانٍ جديدة تمامًا، وهذه الأغاني الجديدة تشبه إلى حد كبير أعمال الفنان أو الفنانين الذين تدرب النظام على أعمالهم.
ومثل الكثير من أنماط تعلم الآلة في مجال الفنون؛ إذ تتعلم الأجهزة كيف تنقل أنماط الأعمال الفنية المرسومة من صورة إلى أخرى، يكتشف نظام “Jukebox” كيفية تقليد أنماط وأساليب الموسيقى، كما أنه يعيد أيضًا تصميم وتوزيع الأغاني وأساليب الغناء لمطربين بعينهم.
وخلال إنجاز العمل في هذا النظام استخدم الباحثون 1.2 مليون أغنية لتدريب نظام “Jukebox”، وعلى الرغم من ذلك أكدوا أن هناك العديد من القيود التي تواجه عملية الإبداع الخاصة به مقارنة بالأسلوب البشري. على سبيل المثال: الأغاني التي يتم إنتاجها تتبع أنماط الأوتار التقليدية، ويمكن أن تتميز أيضًا في بعض الأحيان بمقطوعات منفردة مثيرة للإعجاب، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح بهياكل موسيقية أكبر من النوعيات المألوفة، مثل التكرارات أو ظهور أصوات الجوقة أو الكورس.
ويقول فريق العمل في الورقة البحثية المنشورة على موقعهم الإلكتروني: “أظهرنا عمليًا أن نماذج العمل التي نقدمها يمكنها إنتاج أغانٍ من أنواع متنوعة للغاية من الموسيقى، والتي تتراوح بين موسيقى الروك والهيب هوب والجاز وغيرها، ويستطيع النظام أن يلتقط اللحن والإيقاع والتركيبات بعيدة المدى، والجداول الزمنية لمجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية، وذلك إضافة إلى الأساليب الغنائية الخاصة وأصوات المطربين التي سيتم إنتاجها مع الموسيقى”.
وهذا النظام الجديد ليس هو الجهد الأول الذي تقدمه شركة “OpenAI” في ذلك المجال؛ حيث تعمل الشركة على توليد الموسيقى آليًا منذ عدة سنوات، وقدمت فيما مضي نظام “MuseNet” القادر على إنشاء مساقات كاملة من نوعية “ميدي” بطريقة فعالة تسجل النغمات والمقطوعات الأساسية، لكن رغم جودة هذا النظام إلا أنه لا يقارن مع نظام “Jukebox”، الذي يستطيع إنشاء أغانٍ بالكامل بمقاطعها الصوتية لأي نوعية موسيقية يعرفها العالم.
ورغم دقة النتائج التي يصدرها نظام “Jukebox”، إلا أن تطبيقاته ما تزال حتى الآن محصورة على الجانب الأكاديمي، وليس من المتوقع أن نرى إحدى الأغاني التي تنتجها الآلة تتصدر قوائم الأغاني الأكثر استماعًا في وقت قريب؛ إذ تفتقد الأغاني المنتجة آليًا للكثير من تفاصيل براعة الإبداع البشري، ويستطيع المستمع الخبير أن يلاحظ عدم تواجد مقاطع تكرارية أو جسور لربط الكلمات، وهي النقاط التي تثبت عبقرية المؤلف.
وفي الحقيقة فإن الوصول إلى نظام “Jukebox” هو التطور الطبيعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لصنع الموسيقى، أو كوسيلة لمساعدة الموسيقيين بالتكنولوجيا الحديثة على مدى سنوات، فعلى سبيل المثال: شارك المطرب الشهير “ديفيد بوي”، خلال التسعينيات في تطوير تطبيق يسمى “Verbasizer”، كان يعمل على استلهام المواد من مصادر أدبية ويعيد ترتيب الكلمات عشوائيًا لإنشاء مجموعة كلمات جديدة يمكن استخدامها في الأغاني.
وفي عام 2016 استخدم الباحثون في شركة “Sony” برنامجًا يسمى “Flow Machine” لإنتاج ألحان على غرار أسلوب فريق “البيتلز” الشهير. كما تم منح المواد المنتجة إلى الملحن “بنوي كاري”، الذي طور العمل إلى أغنية شعبية حملت اسم “سيارة والدي”، كما تم استخدام البرنامج ذاته في إنتاج ألبوم موسيقي كامل حمل اسم “الظل”.
أما على المستوى الشعبي فقد تم دمج هذه التكنولوجيا بالفعل مع العديد من برامج صناعة الموسيقى الشهيرة مثل “Logic”، الذي يتم استخدامه على نطاق واسع بين الموسيقيين في أنحاء العالم.
وفي الوقت الحالي توجد صناعة كاملة مبنية على خدمات وأنظمة الذكاء الاصطناعي لإنشاء الموسيقى، تنخرط فيها العديد من الشركات الكبرى، مثل: جوجل وSony و Spotify وغيرها. وتعمل غالبية هذه الأنظمة باستخدام شبكات التعلم العميق، وهو نمط من أنماط الذكاء الاصطناعي يعتمد على تحليل كميات كبيرة من البيانات.
والفكرة الأساسية هي تغذية البرنامج بكميات هائلة من المواد الموسيقية الأساسية، من أغاني الرقص وصولًا إلى كلاسيكيات الديسكو؛ إذ يحللها البرنامج للعثور على الأنماط المتكررة، ويلتقط العديد من التفاصيل الفنية مثل الأوتار، والإيقاع، وطول النغمة، وكيفية ارتباط النغمات ببعضها البعض، لتتعلم الآلة من جميع المدخلات؛ حتى تتمكن من إنتاج ألحانها الخاصة في النهاية.
وعلى الرغم من القفزة الهائلة في المحاكاة التي يوفرها نظام “Jukebox”، إلا أنه لسوء الحظ لا يمكن أن ينشئ موسيقى جديدة تمامًا حتى الآن. كما أن إنتاج تلك الموسيقى يستغرق الكثير من الوقت؛ حيث يحتاج الأمر لنحو 9 ساعات لتقديم دقيقة واحدة من الموسيقى المبتكرة، الأمر الذي يجعل أي استخدامات تفاعلية لهذا النظام بعيدة المنال حاليًا.
وفي النهاية رغم الترحيب الكبير بالتطور في هذا المجال إلا أن التكنولوجيا تأتي ومعها مخاوفها المحتملة أيضًا، ومن أبرزها: هل ستتمكن الآلات في يوم ما من تقديم أعمال مبتكرة ومبدعة تتخطى الإنجاز البشري؟ وهل يمكن أن تصل الأعمال الموسيقية الآلية إلى درجة من الإتقان تلغي الحاجة إلى العامل البشري؟
لا توجد إجابة صريحة لهذه الأسئلة الآن، ولكن الزمن وحده هو الكفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.
اقرأ أيضًا:
الذكاء الاصطناعي والصحافة.. سباق مع الآلات
ولمتابعة أحدث الأخبار الاقتصادية اضغط هنا