على غرار برنامج علم البسطاء الشهير، تعالوا معًا نستعرض جائرة نوبل للفيزياء هذا العام. حيث أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن فوز الثلاثي: العالم البريطاني جون كلارك، والفرنسي ميشال ديفوريه، والأمريكي جون مارتينيس.
عالم ميكانيكا الكم الغريب
جاء فوز الثلاثي بالجائزة نتيجة البحث الذي برهنوا فيه عن إمكانية حدوث الظواهر الكمية فى الحياة العادية.
لفهم هذا الإنجاز في عالم الفيزياء يجب علينا الغوص قليلًا فى هذا العالم الرائع والمحير في آن واحد. ولفهم هذا العالم يجب فهم اهم سماته ومبادئه.
يتعامل كل منا يوميًا مع العالم المادي المحيط فهناك الأبواب والجدران الأرض والسيارات إلخ. حيث يمكن تحديد أماكن تواجد كل منها. ولا يمكن أن تشغل مادتين نفس الحيز من الفراغ.
كما نتعامل أيضا مع الموجات على صورة الضوء المنظور والأشعة مثل أشعة اكس وغيرها.
تنطبق قوانين الفيزياء التقليدية على الأجسام من حولنا. فأنت تلاحظ عند ركل كرة ستتحرك وإذا اصطدمت بجدار سترتد.
وأنت فى أي وقت يمكنك رؤية الكرة ومكانها وسرعتها. ولكن المثير للدهشة هو عندما تصغر أبعاد الأجسام إلى الأبعاد الذرية نجد أن تلك القوانين تختلف تمامًا حيث يختلف سلوك المواد بطريقة مدهشة.
فى تلك الأبعاد النانومترية ” جزء من مليار جزء من المتر ” وما دونها نجد أن الأجسام تتصرف أحيانا كما لو كانت موجات وتخترق جدارنا لا تستطيع خرقها فى العادة.
كما يمكن لقطة ما أن تكون حية وميتة فى آن واحد. أيضًا يمكن أن تتواصل جسيمات فيما بينها لحظيا حتي لو فصلت بينهم مسافات شاسعة.
وهنا يأتي نطاق عمل ميكانيكا الكم ولمحاولة فهمه دعنا نستعرض شرحًا مبسطاً لتلك المفاهيم.
سلم الطاقة وميكانيكا الكم
فى العالم المنظور تتدفق الطاقة بسلاسة أمام أعيننا وتتحرك الأجسام بصورة متصلة. غير أن فى الأبعاد الذرية ودونها تكون الطاقة مكونة من خطوات صغيرة تسمي الكمة.
لا يمكن للطاقة أن تنتقل إلا لو كانت مضاعفات لتلك الكمات الصغيرة. ومن هنا اكتسبت ميكانيكا الكم اسمها وشهرتها.
تخيل طفل صغير يخطوا درجًا ، فهذا الطفل يمكنه أن يفقز ثلاث درجات دفعة واحدة أو درجتين وربما واحدة غير أنه لا يمكنه أن يتنتقل نصف أو ربع درجة .
كذلك الحال فى الحركة وانتقال الطاقة كل شئ مكون من درجات صغيرة هي الكمات.
ومن الجدير بالذكر فإن كل نوع من الطاقات له كمة خاصة به كالفوتونات، كمة الموجات الكهرومغناطيسية، والجريفيتون، كَمة الجاذبية، وغيرها.
لا يمكننا التأكد من الجسيمات بدقة
تخيل معي الآن ، إذا كان كل شئ مكمي وهذه الكمة من الطاقة صغيرة جدا فإنه من الطبيعي أننا لا يمكننا التأكد من مكان الجسم بصورة دقيقة جدا.
دعنا نشرح ذلك بصورة مبسطة. يمكننا أن نري الجسيم بإرسال ضوء يرتد عن الجسم ويعود للراصد.
في عالم الكم لا يمكن لهذا الفوتون ، الذى أرسلناه لنري الجسم، الارتداد إلا عند الاصطدام مع الجسم .
عند تلك اللحظة تنتقل بعض طاقة الفوتون للجسم فتغير موقعه . عند تلك اللحظة فإنك مهما حاولت فلن تحصل على مكان الجسم بدقة ان حصلت على قياس دقيق لكمية تحركه، كمية التحرك هي مقياس لحركة الجسم . وذلك لان مكان الجسم قد تغير نتيجة القياس نفسه. والعكس صحيح حيث لن تتمكن من قياس كمية التحرك بدقة ان قم بقياس مكان الجسم بدقة. ومن هنا ينبع مبدأ عدم اليقين انه في حياتنا فى العالم الكمي لا يمكننا أن نحدد مكان جسيم ما وسرعته بدقة فى آن واحد بل أحداهما على حساب دقة الثاني. أى أن الدقة المطلقة غير موجودة حتمًا.
الأجسام تمتلك أطيافا مصاحبة لحركتها
يعد الحيود من أهم خصائص الموجات حيث يمكن ملاحظة الحيود بصورة طبيعية. ويمكن تعريف الحيود فى الموجات على أنه تغير مسار الضوء عند عبوره حاجزًا ما أو حول عائق.
لكن إذا كان الضوء احادي الطول الموجي عندئذ يحدث نمط التداخل عند تتفاعل الموجات مع بعضها البعض لتمحي فى مناطق، بينما تتضاعف شدتها فى أماكن أخري. يسمي الشكل الناتج نمط التداخل.
فى بادئ الأمر أدرك العلماء أن الموجات والمادة لا تقاطع بينهما حتي تمت تجربة مثيرة للاهتمام وهي تجربة الشق المذدوج للالكترونات وتجربة حيود الإلكترونات المبعثرة عند الارتداد من سطح بلورة نيكل معدني.
اقترح دي برولى عام 1924 أن الجسيمات يمكنها التعامل كموجات أو أنها تمتلك موجات مصاحبة لها. وعند التأثير فى تلك الموجات يمكن التأثير على الجسم المادي تبعا لذلك.
كانت تلك فكرة عبقرية وغريبة فى آن واحد كمن يقول لك أني أستطيع تحريكك بواسطة تحريك صورتك فى المرآة. غير أن تجارب مثل الشق المذدوج قد أكدت تلك الحقائق. فيمكننا الآن ان نري كيف أثبتت تلك التجربة طبيعة الالكترونات المزدوجة كموجة وجسيم فى آن واحد.
أشباح الموجات تؤثر على الأجسام
تصور العلماء عندئذ الإلكترونات كما لو كانت كورا صماء تكون مع النويات المواد المعروفة. ولكن عند إطلاق الالكترونات على صفيحة مصمته بها شقين طوليين فإن شيئًا عجيبًا يحدث.
حيث يري العلماء نمطا للتداخل كما لو كانت الالكترونات موجات وليست جسيمات.
وعند وضع كاميرا أو طريقة للرصد تتصرف الإلكترونات كما لو كانت كورا صماء مرة أخري.
كيف عرف الالكترون أنه مراقب؟ ولماذ تصرف هكذا؟ لا تجيب الفيزياء عن تلك الأسئلة إلا من خلال ميكانيكا الكم.
فى حالة أن الجسم غير مراقب تتفاعل الدالة الموجية للالكترونات فتتداخل فيدفع ذلك الالكترونات إلى التواجد فى أماكن التداخل كما أنها موجات.
بينما عند مراقبتها تنهار الدوال الموجية المصاحبة فتعود لتتصرف كما لو كانت كرات مصمتة.
أى أن الموجات المصاحبة يمكنها أن تؤثر فى المادة المنظورة.
وتعرف تلك الظاهرة بالطبيعة المزدوجة للأجسام حيث تتصرف الجسيمات دون الذرية تارة على أنها موجات، وتارة أخري على أنها جسيمات كما هو الحال فى العالم المنظور.
التواصل فيما وراء المكان
فى العالم المنظور لا يمكن لجسيمن التواصل والتأثير المتبادل إلا من خلال روابط مادية بينهما. بينما فى عالم ميكانيكا الكم يمكن لالكترونان أو فوتونان ،المكون الرئيس للضوء، التأثير على بعضهما البعض لو كانا مترابطين من البداية و خرجا من نفس المصدر حتي لو فصلت بينهما حدود مجرية في اتساعها.
تسمي هذة الظاهرة الترابط الكمي واقترح العلماء أن الجسيمين مرتبطين بثقب دودي يمكنهما من الاتصال الحظي فيما بينهما.
الهروب عبر الجدران فى ميكانيكا الكم
تخيل أنك قد سجنت لسبب ما فى غرفة مغلقة محكمة الغلق جدرانها من أسمنت سميك، هل يمكنك الفكاك منها ألا من الباب؟
فى عالم الجسيمات دون الذرية تستطيع الجسيمات المرور من الجدران والنفاذ إلى العالم الخارجي دون أي اعتبار للجدار.
يمكنك تخيل ذلك ككرة تنس صغيرة قمت بقذفها الى جدار ما فبدلا من الارتداد قامت الكرة بالعبور من خلال الجدار نفسه وليس من ثقب فيه.
القطة حية وميتة
طالما اتفقنا أن الموجات يمكنها أن تتحكم فى الجسيمات المصاحبة لها، إذا العالم الكمي يعتمد على الاحتمالات وحلول المعادلات الكمية التى تصف تلك الموجات وتغيرها وتفاعلاتها.
ولا يمكن التأكد من الحالة الحالية للجسم إلا من خلال رصده وقياسه. كما هو الحال فى تجربة الشق المزدوج السابقة. فقد بقت الجسيمات فى الحالة الموجية حتي تم قياسها بوجود مراقب أو كاميرا. لنبسط ذلك سويًا.
افترض شرودنجر وهو عالم فيزيائي شهير قطة فى صندوق محكم الغلق متوجد بجوارها سم زعاف فى قنينة سهلة الكسر.
فى أي لحظة تكون القطة ميتة وحية فى آن واحد لأن احتمال حياتها ومماتها متساويين وكلا منهما يساوي 0.5. بينما لن نتأكد من حياتها أو مماتها إلا بفتح الصندوق.
وتأخد الاحتمالات القيم من صفر إلى الواحد الصحيح حسب نسب الترجيح بين الاحتمالات. ف 0.5 هنا تعني أن كلا من الاحتمالين ممكنين بنفس الدرجة، بينما يمثل الصفر استحالة حدوث الاحتمال والواحد الصحيح يعني حتمية حدوثه.
أي أن ميكانيكا الكم تتخبرك أن أي شيء ليس حتميًا وإنما يخضع للاحتمالات.
ميكانيكا الكم وعالم من الاختراعات المفيدة
يعتقد العض بأن ميكانيكا الكم معقدة، لن أخفيك سرًا هي معقدة بالفعل حيث إنها تختلف جذريا عن المفهوم المتعارف عليه لسلوك الكون.
غير أنها قد فتحت الأبواب أمام مئات التطورات العلمية للبشرية فى أخر 120 عاما منذ ظهورها.
فى هذا العام عادت ميكانيكا الكم إلى الصدارة فى جائزة نوبل مرة أخري حيث حصلت أبحاث متعلقة بميكانيكا الكم على العديد من جوائز نوبل.
حيث قام الثلاثي الفائرة بجائزة نوبل بتصميم تجربة توضح حدوث ظاهرة الهروب من النفق Tunneling فى مواد يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وليست فى مستوي الذرات كما هو متعارف عليه.
وأخيرًا، أسهمت تلك الدراسات ودراسات مشابهة عن ظهور ميكروسكوبات قوية وكمبيوترات كمية فائقة القوة وأجهزة تشخيص طبيه متطورة. كما أنها تسهم في معرفة الكون ودراسته بصورة معمقة عن ذي قبل.