فتح تليسكوب جميس ويب منذ إطلاقه في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 2021 آفاقًا جديدة لاستكشاف الفضاء والمجرات البعيدة عن الأرض. وما زالت الاستكشافات التي يقوم بها العلماء باستخدام التليسكوب تبهر المجتمع العلمي، وخاصة في استكشاف ثقوب سوداء عملاقة جديدة.
تقبع الثقوب السوداء عادة في قلب كل المجرات، وهي التي تمنع انفراط عقدها وتمنحها الحياة. وذلك من خلال الجاذبية التي تتمتع بها هذه الثقوب. ويمكن أيضًا أن تكون هذه الثقوب هائمة على وجهها في الفضاء الفسيح للكون غير مرتبطة بمجرة. وتمتلك تلك الثقوب القدرة على ابتلاع كل ما يقابلها من مادة حتى إنها قادرة على ابتلاع نجم كامل بدون ترك أي أثر لوجود هذا النجم يومًا.
ما الثقب الأسود؟
من المعروف أن عنصر الهيدروجين هو أخف العناصر و أكثرها وفرة في الكون عند بداية الخلق. ويعد الهيدروجين هو الوقود الرئيسي للنجوم؛ حيث يندمج مكونًا الهيليوم، كما هو الحال في نجمنا الشمس؛ ما يعطي النجم الطاقة والحرارة واللمعان المعروف.
ويمكن أن تدمج النجوم الهيليوم أيضًا لإنتاج عناصر أثقل وصولًا للحديد أو ما يعرف بقاتل النجوم. وعند تكون الحديد يبدأ النجم بفقد حرارة نواته، وينسحق تحت وطأة الجاذبية المهولة للمادة المكونة للنجم نفسه.
ومن هنا يكون مستقبل النجم في مفترق طرق تبعًا إلى كتلته، فيمكن أن يتحول إلى نجم نيوتروني، هو نجم مكون أساسًا من نيترونات، وذو كثافة عالية جدًا أو إلى ثقب أسود.
ويشترط لتكون الثقب الأسود أن تكون كتلة نواة النجم عند احتضاره أكبر من 3 أضعاف كتلة الشمس. وقد شارك تليسكوب هابل في رصد الكثير منهم فيما مضي.
ثقوب سوداء في قلب المجرات
من المعروف للعلماء الآن أن كل مجرة كبيرة تحتوي على ثقب أسود في مركزها. وبالنظر إلى الكون الفسيح بصورة أشمل فإن الثقب الأسود الموجود بمركز مجرتنا درب التبانة والمسمى *Sagittarius A يعد خفيف الوزن جدًا، بالمقارنة بالثقوب المرصودة حديثًا. ففي العقد الأخير اكتشف العلماء ثقوبا سوداء هائلة الكتلة؛ حيث تبلغ كتلتها 1000 مرة كتلة *Sagittarius A، وفي نفس الوقت تبلغ أقطار تلك الثقوب عرض نظامنا الشمسي بأكمله.
وقدم تلسكوب جيمس ويب الفضائي نظرة جديدة حول كيفية نمو هذه العمالقة وتطورها منذ فجر التاريخ. ولكن هناك أيضًا العديد من الأسئلة المحيرة مثل من أين أتت؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل حجمها؟.
طرق الكشف عن الثقوب السوداء
من المعروف بأن الثقوب السوداء لا يمكن رصدها بذاتها؛ حيث لا تشع ضوءًا ولا يمكن للضوء الإفلات من جاذبيتها، وفي نفس الوقت لا يمكن لأي مسبار، بفرض وجود تكنولوجيات تُمكن من الوصول إليها، يمكنه الإفلات من جاذبيتها.
لذلك لا يمكننا رؤيتها إلا إذا ألقت بظلها على النجوم في خلفيتها. ومع ذلك، يمكننا استنتاج وجودها بسهولة أكبر من خلال النظر إلى مجرة وملاحظة تأثيرات الثقب الأسود المركزي على النجوم المحيطة به.
كما تتلخص إحدى طرق الكشف عن الثقوب السوداء في البحث عن النفاثات الاشعاعية القوية التي تنطلق من أقطاب الثقب الأسود (إشعاع هوكينج). يمكن للثقوب السوداء أيضًا أن تنتج حلقات ساخنة من المادة تدور حولها، تسمى أقراص التراكم، أثناء استهلاكها للمادة من حولها.
وفى هذا الصدد تعلق Julie Hlavacek-Larrondo، أستاذ الفيزياء الكونية في جامعة Université de Montréal، على كيفية تكون تلك الحلقات: “تدور المادة بسرعة حول الثقب الأسود؛ حيث تتسبب الجاذبية الهائلة في دورانها. وتدور المادة بسرعة الضوء تقريبًا. وبينما تسقط المادة نحو الثقب الأسود، ينبعث من قرص المادة أيضًا أشعة سينية ساطعة. وكلما كان الثقب الأسود أكبر، كلما زاد إنتاج الأشعة السينية والموجات الراديوية بواسطة قرص التراكم والنفث على التوالي”.
ولكي تنمو مثل هذه الثقوب السوداء البعيدة بهذا الحجم، فلا بد أنها ولدت في وقت مبكر نسبيًا من تاريخ الكون ثم التهمت المواد بشراسة، وهو أمر يتحدى الكثير مما نعرفه عن حدود وقوانين تشكل الثقوب السوداء. ومع ذلك، بدأ علماء الفلك في رؤية أدلة على هذا.
تليسكوب جيمس ويب وآفاق جديدة
نظرًا لأن الضوء يستغرق الكثير من الوقت للوصول من حواف الكون المنظور وبفضل قوة تلسكوب جيمس ويب، أصبح علماء الفلك يراقبون الآن أماكن أبعد وأبعد، وبالتالي أبعد في الزمن. ومكنتهم قوة حساسات التليسكوب من التقاط الضوء المنبعث من حواف الكون أي رؤية المجرات في أول مئات الملايين من السنين من عمر الكون. وكما هو متوقع فإن بعضها يحتوي بالفعل على ثقوب سوداء كبيرة.
صعوبة بالغة في الرصد وكتل صادمة
ونظرًا لما سبق، يعد قياس حجم مثل هذه الأجسام الضخمة والبعيدة أمر صعب للغاية. لكننا نعلم أن بعض هذه الثقوب كبير بشكل مذهل. حيث تم العثور على واحد من أكبر الثقوب المكتشفة حتى الآن، والمعروف باسم Ton 618، مختبئًا في منتصف كوازار. ويمكننا تعريف الكوازار بأنه جسم فلكي شديد السطوع، ويعتبر أحد أكثر الكيانات بُعدًا وسطوعا في الكون.
ويعتقد العلماء أن Ton 618 ، والذي يبعد حوالي 18 مليار سنة ضوئية عن الأرض، هو ثقب أسود هائل في مركز مجرة. وينتج Ton 618 إشعاع قوي نتيجة امتصاصه المادة من حوله. ويقدر العلماء أن كتلة Ton 618 تعادل 66 مليار مرة كتلة الشمس وهو يحتل حيزًا ربما يصل إلى 40 مرة من المسافة بين نبتون وشمسنا.
كما رصد العلماء ثقبًا أسود آخر في مركز مجرة عنقودية تسمى Holm 15A أثقل من الشمس بحوالي 44 مليار مرة، ويشغل حيزًا يقارب 30 ضعف المسافة بين نبتون والشمس.
اكتشافات متتالية
يقول James Nightingale ، عالم الكونيات الرصدي في جامعة Newcastle في المملكة المتحدة،”من الناحية النظرية، لا يوجد سقف للأحجام التي قد تصل إليها هذه الوحوش في الفضاء”.
ومن الجدير بالذكر أن Nightingale كان قد اكتشف في مارس 2023 ثقبًا أسود فائق الكتلة يزن 33 مليار مرة كتلة الشمس.
وتضيف Hlavacek-Larrondo: “تأتي الثقوب السوداء التي نعرفها بأحجام مختلفة. فقد يكون الثقب الأسود متضائلًا ليصل إلى حجم الذرة. في الواقع تكون الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية هي الأكثر شيوعًا. حيث تنتج هذه الثقوب من انهيار النجوم الضخمة للغاية ويكون الثقب الناتج يمتلك كتلة تتراوح بين ثلاثة إلى خمسين ضعفا من كتلة شمسنا”.
وفي الواقع تتكثف هذه الكتلة الهائلة في جسم بحجم عاصمة من عواصم مدن البشر. وتشكل الثقوب السوداء متوسطة الكتلة المجموعة التالية، وتصل إلى حوالي 50000 ضعف كتلة شمسنا، وتمتد على منطقة من الفضاء بحجم كوكب المشتري تقريبًا. ثم تمتد الثقوب السوداء هائلة الكتلة لتصل إلى ملايين أو مليارات أضعاف كتلة شمسنا”.
نظريات جديدة
يعتقد العلماء أن نمو هذه الثقوب السوداء بهذه السرعة أمر غامض بعض الشيء، ولكنهم يعزون ذلك الى كيفية تشكل هذه الأجسام في اللحظات الأولي للكون وما تلاها. ويحاول العلماء محاولة فهم الظروف التي أدت إلى تكون تلك العمالقة.
وتشير إحدى الأفكار لمحاولة تفسير هذه ظاهرة وجود الثقوب السوداء العملاقة إلى أنها تشكلت من موت النجوم الأولى في الكون. حيث تسمى هذه النجوم بنجوم المجموعة الثالثة، وهي وحوش كانت كتلتها تتراوح بين 100 و 1000 ضعف كتلة شمسنا. وكانت تلك النجوم مصنوعة بالكامل تقريبًا من الهيليوم والهيدروجين.
ومن ثم عند موت تلك النجوم أطلقت المستعرات الأعظمية Supernovae، وهي انفجارات نجمية هائلة، لهذه النجوم في المراحل الأخيرة من حياتها مطلقة عناصر أثقل الي سماء الكون الفسيح . وقد أدت هذه المواد لاحقًا إلى ظهور نجوم أخرى وكواكب في النهاية، بما في ذلك شمسنا والأرض. لكن موتها ربما أدى أيضًا إلى إنتاج ثقوب سوداء كبيرة؛ حيث انهارت المواد المتبقية إلى داخل النجم بعد موته تحت تأثير الجاذبية الهائلة لتلك النجوم.
وفيما يؤيد هذه الفكرة يقول Mar Mezcua، عالم الفيزياء الفلكية في معهد علوم الفضاء – إسبانيا: “الثقوب السوداء من هذه النجوم أضخم من الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية. ومن هذا، يمكن لهذا النوع من الثقوب النمو وتزيد فرصه في أن يصبح فائق الكتلة في وقت قصير”.
احتمالات أخرى
ويرجح العلماء ،في محاولة التفسير احتمالات أخرى لتكون هؤلاء العملاقة، أن الثقوب السوداء الأولى قد تشكلت في الغالب ليس من النجوم ولكن من سحب من الغاز. ويعرف هذا النوع باسم الثقوب السوداء المنهارة مباشرة . وعادة ما تكون هذه السحب قد شكلت النجوم أثناء تكاثفها تحت تأثير الجاذبية، ولكن إذا كانت درجة الحرارة مرتفعة بما يكفي، فقد لا تكون بعض السحب قد شكلت النجوم ولكنها انهارت مباشرة إلى ثقوب سوداء بدلًا من ذلك.
وتقول Mezcua: “هذه هي الظروف التي لا نجدها في الكون الحالي. ومع ذلك، في ظل الظروف الحارة المضطربة للكون المبكر، ربما كان ذلك ممكنًا”.
لم يتم رصد نجوم من النوع الثالث أو ثقوب سوداء منهار مباشرة بشكل قاطع حتى الآن. لذا فمن غير الواضح أي آلية – إن وجدت – هيمنت على تشكل الثقوب السوداء في الكون المبكر.